بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا عام 2011، اعتمدت تركيا سياسة “الباب المفتوح”، مما أدى إلى استقبالها حوالي 4 ملايين شخص من جارتها الجنوبية الشرقية التي تشترك معها في حدود طولها 877 كيلومتراً، وبذلك أصبحت تركيا واحدة من أكثر الدول استقبالاً للاجئين في العالم، وأما الآن بعد سقوط نظام الأسد فتكثر التساؤلات عن عودة اللاجئين إلى سوريا وما يعتري العملية من تهيئة للظروف.
ووفقاً لما نقله وترجمه فريق تحرير منصة كوزال نت عن صحيفة “Voaturkce“، رغم حصول تركيا على دعم مالي من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة على مر السنوات لدمج هؤلاء اللاجئين في المجتمع التركي وإدخالهم ضمن القوى العاملة الرسمية، إلا أن معظمهم عاشوا في ظروف صعبة.
كانت قضايا الأمن في المناطق التي يعيش فيها اللاجئون السوريون، وتأثيرهم على الاقتصاد، وحقوق المواطنة والتصويت، من أبرز الموضوعات التي أُثيرت في السياسة الداخلية التركية والرأي العام، والتي كانت تدعو بقوة في كل مناسبة إلى بدء عودة اللاجئين إلى سوريا.
وخلال فترات الانتخابات التركية، كانت قضية عودة اللاجئين إلى سوريا موضوعاً حاضراً في برامج الأحزاب السياسية، سواء الحاكمة أو المعارضة، من خلال الحديث عن إعادتهم إلى بلادهم.
مسألة عودة اللاجئين إلى سوريا ضمن أولويات تركيا!
ومع سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، كانت مسألة عودة السوريين في تركيا إلى وطنهم من أولى القضايا التي أُثيرت على الفور.
على الرغم من عدم وجود ازدحام كبير عند المعابر الحدودية، لوحظ أن بعض الأشخاص غادروا تركيا مع عائلاتهم فور سقوط نظام الأسد، في خطوة أولية تشير إلى بدء عودة اللاجئين إلى سوريا، ولو جزئياً.
ومع ذلك، أكد العديد منهم أنهم لا يخططون للعودة إلى وطنهم قبل استقرار الأوضاع في سوريا واكتمال عملية إعادة الإعمار.
ويرى خبراء الهجرة أن التوقعات بعودة سريعة ليست واقعية، معتبرين أن الأرقام المعلنة بشأن أعداد العائدين معقولة.
كما يشير خبراء الهجرة إلى أن السوريين الذين عاشوا في تركيا لأكثر من عشر سنوات سيلعبون دوراً مهماً في مستقبل العلاقات بين البلدين.
وأفاد العديد من السوريين الذين تحدثت معهم قناة “صوت أمريكا” بالتركية عند معبر أونجو بنار الحدودي في مدينة كيليس أنهم ذهبوا لرؤية الأوضاع في بلدهم، وأنهم سيأخذون عائلاتهم لاحقاً بناءً على الظروف هناك.
”أريد حياة جيدة في بلدي الآن“
السوري علي جروه، الذي لجأ إلى تركيا في عام 2013 قادماً من حلب، أوضح أنه جاء إلى المعبر الحدودي بهدف العودة إلى وطنه.
وقال: “أعمل هنا كجزار منذ سنوات طويلة، وقد تزوجت ورزقت بطفل. سأترك المحل هنا لشقيقي، وسأذهب أولاً لمعاينة الأوضاع هناك. منزلنا قد دُمر وسأحاول ترميمه. وعندما أوفر الظروف المناسبة، سيبيع أشقائي المحل ويأتون للانضمام إلي. وسنفتح محلاً جديداً هناك.”
وأشار جروه إلى أنه من المبكر الحكم على الإدارة الجديدة في سوريا، قائلاً: “إذا تمكنوا من إدارة الأمور بشكل جيد، سنعيش جميعاً براحة. أريد الآن حياة جميلة في وطني.”
من جهة أخرى، تحدث محيي الدين الحسين، الذي جاء إلى تركيا في عام 2012 من مدينة حلب السورية، عن حياته في تركيا قائلاً إنه عاش في غازي عنتاب لمدة 12 عاماً وعمل كخياط في ورش النسيج.
وأعرب الحسين لقناة “صوت أمريكا” التركية عن سعادته بانتهاء الحرب في بلاده، قائلاً: “انتهاء الحرب في بلدي جلب لنا سعادة كبيرة، وآمل أن تسير الأمور بشكل جيد وصحيح في المستقبل. الآن سأتوجه أولاً إلى أعزاز وأمكث هناك لفترة، ثم سأذهب إلى إخوتي الموجودين في إدلب.”
“في هذه المرحلة، لا توجد تغييرات كافية تشجع على عودة اللاجئين إلى سوريا”
وقد تحدث الأستاذ الدكتور محمود كايا، عضو هيئة التدريس بقسم علم الاجتماع بجامعة حران وخبير الهجرة، إلى “VOA Türkçe”، موضحًا أن لكل حالة هجرة ديناميكيات متشابهة وفريدة تؤثر على العودة، قائلاً: “إن ظروف بلد المنشأ وبلد الوجهة، إلى جانب الأهداف والتوقعات، تعد من العوامل التي تؤثر على سرعة العودة، وبالتالي فإن عودة اللاجئين إلى سوريا تتأثر بهذه العوامل.”
وأشار محمود كايا، مؤلف كتاب “السوريون في تركيا”، إلى أن غياب عودة جماعية مكثفة للسوريين في المرحلة الحالية، خلافًا لتوقعات الرأي العام، يرتبط بهذه الديناميكيات، وصرح قائلاً: “يمكنني أن أقول إننا نمر بمرحلة من الترقب والمراقبة.”
وأكد كايا أهمية الاستقرار السياسي والاقتصادي في تحديد سرعة عودة اللاجئين إلى سوريا، مضيفاً التالي:
“لكن في هذه المرحلة، لا توجد تغييرات كافية ترضي مجتمع اللاجئين السوريين. ورغم انهيار النظام السابق بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، إلا أن هناك مخاوف متزايدة بشأن طبيعة النظام الجديد، وما إذا كانت الصراعات ستستمر أم لا، وما إذا كان سيتم تحقيق بيئة سلام مستقرة. يجب الإشارة إلى أن الإدارة الحالية ما زالت جديدة وتحتاج إلى وقت. وينطبق الأمر نفسه على المجال الاقتصادي، حيث نعلم أن اللاجئين السوريين حول العالم يتابعون باهتمام بالغ مستقبل سوريا الجديدة.”
“التوقعات بعودة سريعة غير واقعية”
أوضحت الأستاذة المشاركة د. ديدم دانش، عضو هيئة التدريس في جامعة غلطة سراي ومؤسسة جمعية دراسات الهجرة، أن سقوط نظام الأسد أثار توقعات بعودة مفاجئة وجماعية في وسائل الإعلام الرئيسية وبين أفراد المجتمع، لكنها ترى، كحال العديد من الخبراء، أن مثل هذه التوقعات بعودة سريعة ليست واقعية. وقالت: “لذلك أعتقد أن الأعداد المعلنة للعائدين معقولة.”
وأكدت دانش أن عودة اللاجئين إلى سوريا بشكل أكبر تعتمد على إعادة إعمار سوريا، وإصلاح بنيتها التحتية، والأهم من ذلك تحقيق الاستقرار السياسي، مشيرةً إلى أن “بلدًا عانى من دمار واسع في مجالات متعددة من القانون إلى الصحة، ومن السكن إلى التعليم، سيحتاج إلى وقت طويل للتعافي.”
“30 ألفاً و668 سورياً عادوا في 18 يوماً”
وأعلن وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، قبل بداية العام الجديد، أن 30 ألفاً و668 سورياً عادوا إلى بلادهم خلال 18 يوماً.
وفي 27 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، أجاب يرلي كايا على أسئلة قناة “TGRT Haber” وصحيفة “Türkiye“، قائلاً: “منذ عام 2017 وحتى هروب الطاغية الأسد وتحرير سوريا، عاد 740 ألف شخص بشكل طوعي. ومنذ 9 ديسمبر/كانون الأول وحتى مساء 26 ديسمبر/كانون الأول 2024، بلغ عدد السوريين الذين عادوا طوعاً 30 ألفاً و668. كيف يمكن تفسير ذلك؟ في عام 2014، كان المعدل الشهري للعودة يبلغ حوالي 10 آلاف شخص، أما الآن وخلال 18 يوماً فقط، فقد تضاعف هذا الرقم ثلاث مرات.”
وأشار يرلي كايا إلى أن بعض السوريين في تركيا يذهبون إلى بلادهم لتقييم الوضع هناك، ثم يخططون لأخذ عائلاتهم بناءً على ذلك. وأضاف أن السوريين الحاصلين على الجنسية التركية لديهم حق الذهاب والإياب، كما هو الحال مع جميع مزدوجي الجنسية.
وفقًا للمعلومات الأخيرة التي قدمها وزير الداخلية يرلي كايا، يوجد في تركيا 4 ملايين و164 ألفاً و472 أجنبيًا لديهم حق الإقامة القانونية. ومن بين هؤلاء، يشكل السوريون المشمولون بنظام الحماية المؤقتة 2 مليون و920 ألفاً و119 شخصًا اعتبارًا من 19 ديسمبر/كانون الأول 2024.
وتعتبر إسطنبول المدينة التي تحتضن أكبر عدد من السوريين في تركيا، تليها غازي عنتاب، وشانلي أورفا، وهاتاي، وأضنة على التوالي.
وأشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشهر الماضي، خلال اجتماع الكتلة البرلمانية لحزبه في البرلمان التركي، إلى أن إعادة إعمار سوريا بسرعة ستسرع من وتيرة عودة اللاجئين إلى سوريا طوعاً.
وأكد أردوغان أنه يتم توفير جميع التسهيلات للسوريين الراغبين في العودة المؤقتة أو الدائمة، مضيفًا: “سنسمح بدخول وخروج مؤقت لفترة محددة. ومع اقتراب فصل الصيف وعطلة المدارس، من المتوقع أن يزداد الضغط على المعابر الحدودية بشكل أكبر.”
”هناك ما يقرب من 875 ألف طفل سوري ولدوا ويعيشون في تركيا“
وفي تصريح أدلى به وزير الداخلية التركي يرلي كايا يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 2024 خلال مشاركته في برنامج “طاولة المحررين” بوكالة الأناضول، كشف عن عدد الأطفال السوريين الذين ولدوا ويعيشون في تركيا.
وأوضح يرلي قايا أن هناك حوالي 875 ألف طفل سوري وُلدوا ويعيشون في تركيا، مشيرًا إلى أن الأطفال الذين ولدوا في تركيا يشكلون 30% من إجمالي عدد السوريين البالغ 2.92 مليون الموجودين حاليًا في البلاد.
كما ذكر يرلي قايا أن عدد الطلاب السوريين في تركيا يبلغ 819 ألفاً و265 طالبًا، موزعين كالتالي: 103 آلاف طالب في المرحلة الثانوية، و273 ألفًا في المرحلة الإعدادية، و398 ألفًا في المرحلة الابتدائية، وحوالي 44 ألفًا في رياض الأطفال.
وأضاف وزير الداخلية أن 60 ألفاً و750 شابًا سوريًا يتلقون تعليمهم في الجامعات التركية، فيما تخرج حتى الآن 17 ألفاً و379 طالبًا سوريًا من هذه الجامعات.
”الشباب والأطفال سيمهدون الطريق لعلاقات قوية في مستقبل العلاقات بين البلدين“
وأوضحت الدكتورة ديدم دانش، الأستاذة الأكاديمية في جامعة غلطة سراي ومؤسسة جمعية أبحاث الهجرة، أن الأطفال السوريين الذين ولدوا وتعلموا في تركيا سيؤدون دورًا مهمًا في المستقبل بين تركيا وسوريا.
وقالت دانش: “لكن الأمر لا يقتصر على الأطفال فقط؛ فالشباب البالغون الذين قضوا معظم حياتهم في تركيا يشاركون في هذا الواقع أيضًا. اليوم، هناك في سوريا جيل يعرف تركيا ويتحدث اللغة التركية. وهذا الوضع سيساهم في بقاء الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بين البلدين قوية دائمًا”.
من جهته، أشار الأستاذ الدكتور محمود كايا، أستاذ علم الاجتماع في جامعة حران وخبير الهجرة، إلى أن الأجيال التي وُلدت أو قضت جزءًا كبيرًا من حياتها في بلد المقصد تواجه مزايا وتحديات متنوعة خلال عملية الهجرة.
وأكد كايا أن مشكلات مثل تعقيد اللغة الأم، والصدمات الثقافية، وإعادة الاندماج قد تظهر خلال عمليات العودة، مضيفًا:
“الأفراد الذين لا يجيدون اللغة العربية أو يجيدونها بشكل محدود ويذهبون إلى مدارس في سوريا سيواجهون مشكلات تعليمية. وبالمثل، قد يعاني الناس في المدن التي دمرتها الحرب من خيبة الأمل وفقدان الأمل. كل هذه الأمور تجعل برامج إعادة الاندماج ضرورية. كما أن الأفراد الذين حصلوا على تعليم معين في تركيا، خاصة في المهن المرموقة والطلاب الجامعيين، لديهم القدرة على أن يكونوا سفراء ثقافيين ومصادر موثوقة للمعلومات لكل من البلدين. وهذا قد يؤدي إلى دور مهم كمصدر رأس مال اجتماعي في عملية العودة وإعادة إعمار سوريا”.
“جئنا إلى تركيا شخصين، والآن نعود خمسة”
كان من بين الأشخاص الذين ينتظرون عند معبر أونجوبينار الحدودي، عبد الحميد عبدي، السوري الذي أنجب أطفاله الثلاثة في تركيا.
وفي حديثه مع “صوت أمريكا” بالتركية، قال عبدي: “جئت إلى تركيا في عام 2014 هاربًا من الحرب. منذ وصولي إلى تركيا، عملت في جميع الوظائف. الناس هنا، جزاهم الله خيرًا، قدموا لنا فرص العمل وفتحوا لنا أبوابهم. الآن، بعد انتهاء الحرب، أعود إلى حمص. لدينا منزل هناك، وأقاربنا هناك أيضًا؛ سنكمل حياتنا هناك من الآن فصاعدًا. بالنسبة للمرحلة القادمة، يكفينا أن يكون لنا وطن. نريد سوريا جميلة، نريد حكومة تهتم بالشعب، تدعمه وتقف إلى جانبه. جئنا إلى تركيا شخصين، والآن نعود خمسة”.
“شعب سوريا متعب جدًا”
أما د.ف، الأم لطفلين، التي طلبت عدم ذكر اسمها بسبب مخاوف أمنية، فقد قالت إنها وصلت إلى تركيا في عام 2012 كأم لطفل واحد، والآن تعود إلى سوريا كأم لطفلين.
المرأة البالغة من العمر 24 عامًا، والمقيمة في مدينة إدلب السورية، قالت لـ”صوت أمريكا” بالتركية: “العديد من الأمهات، العديد من الأطفال، فقدوا حياتهم خلال هذه الفترة، إما بسبب القصف أو بسبب أسباب أخرى في الأماكن التي انتقلوا إليها. بين الدول العربية في الشرق الأوسط، كان أكبر عدد من القتلى، أكبر دمار، وأكبر عدد من الدموع في سوريا. بين الأشخاص الذين ترونهم هنا، لا يوجد من لم يفقد قريبًا. الذي تسبب لنا في هذه المعاناة، بشار الأسد، أصبح الآن في وضع اللاجئ. أتمنى ألا يموت قبل أن يرى موت أقاربه. أريد له أن يعيش ما عشنا. كطفلة، مررت بتجارب صعبة جدًا، والآن أصبحت أمًا، ولا يزال ذلك يؤلمني. عند عودتي إلى سوريا الجديدة، لا أريد أن يمر أولادي بنفس التجارب أو ما يشبهها. قاد الجولاني ومن معه سوريا لتحريرها من الأسد. أتمنى أن يستمروا في العمل من أجل سوريا حرة وديمقراطية ومستقلة. لأننا، نحن شعب سوريا، تعبنا جدًا”.
الرسائل الإنسانية من المنظمات الدولية
وحول عودة اللاجئين إلى سوريا قال المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو جراندى، في رسالة نشرها الشهر الماضي على منصة “إكس” الاجتماعية: “عدد اللاجئين السوريين العائدين إلى ديارهم من البلدان المجاورة بدأ في الزيادة تدريجيًا. في الأسابيع الثلاثة الماضية، تجاوز هذا العدد الخمسين ألفًا بقليل”.
وفي منشوره، أشار جراندى إلى الأوضاع الاقتصادية السيئة في سوريا، مطالبًا بمزيد من المساعدات الإنسانية.
تسعى تركيا أيضًا، من خلال الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع الإدارة الجديدة في سوريا، إلى المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار في جارتها الجنوبية الشرقية، بهدف تسريع عودة اللاجئين إلى سوريا
وأعلنت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، خلال زيارتها لأنقرة الشهر الماضي بعد سقوط نظام الأسد، عن تقديم 1 مليار يورو إضافية لتركيا في مجالات عودة السوريين، وكذلك في مجال الخدمات الصحية والتعليمية. وقدم الاتحاد الأوروبي حتى الآن 10 مليارات يورو كمساعدات لتركيا.
إعداد وتحرير وترجمة: عبد الجواد أمين حميد
التعليقات مغلقة.