في ظل التحولات الحادة والاضطرابات المتصاعدة في الشرق الأوسط، يعود تاريخ بلاد الشام ليحتل موقعاً محورياً في النقاشات الجيوسياسية والثقافية، مؤكداً دوره كركيزة أساسية في هوية المنطقة.
ووفقاً لما جمعه فريق تحرير منصة كوزال نت من معلومات، فإن تاريخ بلاد الشام يمتلك ثقلاً يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، إذ لا يمكن اختزاله فقط في الخرائط الحديثة أو الدول التي تتوزع عليها اليوم.
فقد كانت بلاد الشام من أهم أعمدة الحضارة الإسلامية، ومركزاً دينياً وتاريخياً ظل حياً في وجدان المسلمين عبر العصور، ورغم الانقسامات الحديثة والصراعات الإقليمية والدولية التي تمزقها، تبقى بلاد الشام مجالاً للتاريخ الحي ومستقبلاً معلقاً في وعي الأمة.
تاريخ بلاد الشام ودورها المحوري في الحضارة الإسلامية
شكّلت بلاد الشام إحدى أولى المناطق التي دخلت ضمن الدولة الإسلامية في القرن السابع الميلادي، حيث تحولت بسرعة إلى مركز للحكم والمعرفة والدعوة.
وكانت دمشق، أول عاصمة للخلافة بعد المدينة المنورة، لِتصبح رمزاً للتوسع والاستقرار الإسلامي، في حين مثلت القدس بُعداً دينياً وروحياً خاصاً، له أثر عميق في التصورات الإسلامية حول التاريخ والمقدسات والهوية.
على مدار العصور، اعتُبرت بلاد الشام في الثقافة الإسلامية أرضاً مباركة ذات فضل عظيم، اجتمعت فيها مقومات النهوض الحضاري مثل العلم والقيادة والجهاد والرباط، ولم تكن هذه المكانة ظرفية بل ظلت راسخة حتى في المراحل التي انحسرت فيها سيادة المسلمين على المنطقة.
سايكس بيكو والانقسام الجغرافي
شكّل مشروع تقسيم بلاد الشام لحظة مفصلية في مسار تاريخ بلاد الشام، ليس فقط برسم الحدود السياسية، بل بمحاولة اقتلاع الوعي الجمعي الذي كان يرى الشام كجغرافيا واحدة وهوية متصلة.
بعد الحرب العالمية الأولى، قسّمت القوى الاستعمارية المنطقة وفق اتفاقية “سايكس بيكو” إلى أربع وحدات سياسية منفصلة: سوريا، لبنان، فلسطين، وشرقي الأردن، في محاولة واضحة لتحطيم أي مشروع وحدوي مستقبلي.
وبينما تأسست تلك الكيانات تحت مظلّة الانتدابات، تطوّر الانقسام لاحقاً إلى هويات وطنية مستقلة، ما أدى إلى تباعد السياسات وتناقض الأولويات، بل وحتى اشتداد التنافس في بعض الفترات.
ولم تقتصر التفرقة على الحدود الجغرافية فقط، بل امتدت إلى البنى الاجتماعية والدينية، مع تصاعد الهويات الطائفية، وتغذية مشاريع التجزئة الثقافية داخل كل دولة.
رغم ذلك، بقيت بلاد الشام حاضرة في الوجدان الجمعي كوحدة رمزية، خصوصاً في أوقات الأزمات الكبرى، إذ تلاشت الحدود السياسية أمام مشاعر التضامن الشعبي، وتجلّت وحدة الذاكرة رغم واقع الانقسام.
بلاد الشام بين الوحدة والانقسام
لا يُمكن فهم تاريخ بلاد الشام بمعزل عن تحولات الأمة الإسلامية الكبرى، ففي كل مرحلة من مراحل الانقسام أو التراجع، كانت الشام تشهد أشكالاً من المقاومة والمبادرة، وكأنها مرآة تعكس واقع العالم الإسلامي.
وعلى الجانب الآخر، أدركت القوى الاستعمارية هذه الرمزية العميقة، فسعت إلى تقسيم المنطقة جغرافياً وسياسياً، كما حدث في اتفاقية “سايكس بيكو” التي فرّقت بلاد الشام إلى كيانات منفصلة.
ومع ذلك، ظل الرابط الديني والثقافي متيناً، خاصة مع استمرار رمزية بعض المدن والمواقع الشامية في الخطاب الإسلامي، مثل مكانة القدس ودور علماء بلاد الشام، والآيات القرآنية التي تشير إلى بركة هذه الأرض المباركة.
الهوية الإسلامية والتحديات في بلاد الشام
رغم مرور أكثر من قرن على تقسيم بلاد الشام، لم تغب هذه المنطقة عن الوجدان الإسلامي، حيث يعود تاريخ بلاد الشام إلى التداول في الخطاب الإعلامي والديني والشعبي مع كل تصعيد سياسي أو أمني، لا سيما بعد تحرير الشام من براثن نظام الأسد المجرم، وعودة سوريا لمكانتها كقوة إسلامية سنية.
وفي الآونة الأخيرة، أعادت تصريحات سفير الولايات المتحدة في أنقرة والممثل الخاص لواشنطن في سوريا توماس باراك، الجدل حول مصطلح بلاد الشام، متحدثاً عن “العودة إلى بلاد الشام”.
رغم الانقسامات السياسية والحدود المصطنعة، ما تزال بلاد الشام حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية لسكانها، من دمشق إلى بيروت، ومن عمّان إلى فلسطين.
فالأزمات المتزامنة في غزة وسوريا ولبنان أعادت التذكير بأن الشعوب في هذه الجغرافيا تتقاسم المصير ذاته، مهما اختلفت الأنظمة وتباعدت السياسات.
ومع عودة بعض المعابر البرية للعمل في سوريا، شهدت الأشهر الأخيرة تزايداً في حركة العائلات بين سوريا والأردن ولبنان، ما يعكس استمرار الروابط المعيشية والتجارية بين المجتمعات المحلية.
كذلك، برزت مبادرات شبابية عدة في كل من سوريا، لبنان والأردن، ركزت على التضامن مع فلسطين، وعلى التذكير بالمصير المشترك في وجه الانهيارات السياسية والاقتصادية التي تضرب المنطقة، من مسيرات رمزية ومعارض فنية، إلى حملات توعوية وورش عمل مشتركة، أعادت هذه التحركات إحياء روح التكاتف الشعبي، ورسخت قناعة راسخة لدى جيل جديد بأن الشعوب في بلاد الشام لا تزال تنبض بروح واحدة رغم كل التحديات.
ختاماً، في عالم سريع التحول، تظل بلاد الشام حجر الزاوية لفهم حاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها المحتمل، وسط ذاكرة مشبعة بالأمجاد والمآسي، يبقى السؤال مطروحاً: هل ستعود الشام نقطة التقاء تجمع المسلمين، أم أنها ستظل ساحة للصراع والتنافس؟
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.