إلى أي مدى يمكن التعويل على دعم مالي من دول الخليج في ملف إعادة بناء سوريا؟ وما الشروط التي تضعها هذه الدول أمام دمشق؟ وأين تقف تركيا في معادلة العلاقات السورية الخليجية؟
ووفقاً لما نقله وترجمه فريق تحرير منصة كوزال نت عن مجلة “fikirturu” التركية، نشر الكاتب التركي محمد راكيب أوغلو مقالة مهمة حول ملف إعادة بناء سوريا.
ووفقاً للمقال، مع نهاية عام 2024، دخلت سوريا مرحلة سياسية غير مسبوقة عقب الإطاحة بنظام بشار الأسد، وهو تطور لم يكن متوقعًا لدى معظم المراقبين، إذ أن هذا التحول الجذري أعاد رسم التوازنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، فاتحًا الباب أمام مرحلة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، رئيس الحكومة المؤقتة.
إعادة بناء سوريا على سٌلم أولويات الحكومة السورية المؤقتة
وتركز الحكومة الانتقالية على مواجهة تداعيات الحرب المدمرة، وإعادة بناء سوريا، وإرساء الشرعية الدولية، وتحقيق الاستقرار الداخلي، فضلًا عن تحريك عجلة الاقتصاد ورفع العقوبات. كما تسعى إلى إعادة تعريف علاقاتها الإقليمية والدولية وفق رؤية جديدة.
في فترة وجيزة، اتخذت الحكومة الانتقالية قرارات جوهرية ستحدد مستقبل البلاد، من بينها منع دخول الإيرانيين والإسرائيليين إلى سوريا، وهو قرار يحمل رمزية سياسية كبيرة، فبينما يتماشى هذا التوجه مع مطالب دول الخليج بتحجيم النفوذ الإيراني، فإنه يعكس أيضًا موقفًا حذرًا تجاه إسرائيل.
كما عززت الحكومة الجديدة تواصلها مع دول الخليج في إطار استراتيجية لاحتواء النفوذ الإيراني وكسب دعم إقليمي، بالتوازي مع جهودها لتحسين العلاقات مع الغرب وتخفيف العقوبات.
وفي هذا السياق، أجرى وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد حسن الشيباني، أولى جولاته الدبلوماسية الخارجية إلى دول الخليج، حيث زار السعودية في 1 يناير/كانون الثاني 2025، ثم قطر في 5 يناير/كانون الثاني، والإمارات في 6 يناير/كانون الثاني، في خطوات تعكس توجه الحكومة نحو تعزيز الشراكات الإقليمية والتحرك لبدء عملية إعادة بناء سوريا.
العلاقات مع الخليج والعامل الإيراني
العلاقات التي أسستها الإدارة الجديدة في سوريا مع دول الخليج ترتبط بشكل وثيق بالسعي إلى موازنة النفوذ الإقليمي لإيران.
فلطالما سعى نظام بشار الأسد إلى تعزيز سلطته عبر إقامة روابط استراتيجية وثيقة مع طهران، وهو ما دفع دول الخليج إلى اتخاذ موقف متحفظ تجاهه.
فقد رأت دول مثل السعودية والإمارات أن السياسات التوسعية الإيرانية تمثل تهديدًا لاستقرار المنطقة. كما أن مساعي الرياض وأبوظبي لتطبيع العلاقات مع النظام السوري منذ عام 2018 كانت تهدف، إلى حد كبير، إلى تقليل نفوذ طهران في سوريا، ومحاولة موازنة تأثيرها من خلال التقارب مع دمشق. وبالتالي، فإن سوريا بعد الأسد قد تحظى بدعم خليجي بقدر ما تبتعد عن إيران.
قرار حكومة أحمد الشرع بحظر دخول الإيرانيين والإسرائيليين إلى سوريا يحمل رسالة واضحة للرأي العام الخليجي، مفادها أن البلاد تنأى بنفسها عن المحور الإيراني.
وبالنسبة لدول الخليج، يُعتبر هذا القرار خطوة عملية لمواجهة السياسات العسكرية والاقتصادية والنفوذ الذي مارسته طهران في سوريا خلال السنوات الماضية. فقد طالبت السعودية والإمارات وقطر منذ فترة طويلة بإضعاف النفوذ الإيراني في عملية إعادة بناء سوريا.
وفي هذا السياق، تعمل الحكومة الجديدة في دمشق، بقيادة الشرع، على طمأنة دول الخليج من خلال تحجيم الميليشيات المرتبطة بإيران وإعادة النظر في الاتفاقيات الاستراتيجية المبرمة مع طهران.
وترى دول الخليج أن التغييرات التي طرأت على التوازنات في سوريا تصب في صالح أمنها القومي. فالسعودية، على وجه الخصوص، تعتبر الحد من النفوذ الإيراني أولوية استراتيجية. أما الإمارات، فرغم انخراطها في جهود “التطبيع” مع النظام السوري خلال حقبة الأسد، فقد ظلت متوجسة من الحركات الإسلامية، لكنها ترى في الإدارة الجديدة في سوريا خيارًا أكثر قبولًا مقارنة بالشبكات المسلحة التابعة لطهران.
وبذلك، فإن موقف حكومة الشرع المتحفظ تجاه إيران لا يقتصر على كسب الدعم الخليجي فحسب، بل قد يسهم أيضًا، على المدى البعيد، في تعزيز قبولها الإقليمي وترسيخ مكانتها السياسية في المنطقة.
هل يمكن أن يصبح الخليج وسيطاً في العلاقات مع الغرب؟
الحرب الداخلية الدموية في سوريا تطورت في ظل عقوبات مكثفة فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث أدى سجل نظام بشار الأسد في انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية، إلى توسيع نطاق وشدة هذه العقوبات.
وبناءً على ذلك، تسعى الإدارة الجديدة إلى إعادة ترتيب علاقاتها مع العواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن، بهدف تخفيف القيود الاقتصادية المفروضة. وفي هذا السياق، يكتسب الدور الوساطي الذي يمكن أن تلعبه دول الخليج أهمية خاصة، لا سيما أن السعودية والإمارات، بصفتهما قوتين نفطيتين، تتمتعان بعلاقات استراتيجية متينة مع الإدارة الأمريكية.
تخطط الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع لتفعيل قنوات الاتصال مع الغرب عبر الخليج وتسريع جهود الضغط الدبلوماسي من أجل رفع العقوبات الاقتصادية. ويعكس هذا التوجه قرار وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، بأن تكون أولى زياراته الرسمية إلى السعودية وقطر والإمارات. فالعلاقات القوية التي تربط دول الخليج بالمؤسسات المالية الغربية والمنظمات الدولية قد تسهم بدور حاسم في إعادة تنشيط الاقتصاد السوري.
على الرغم من أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط لا تزال غير متوقعة في ظل إعادة انتخاب دونالد ترامب، فإن نشاط اللوبي الخليجي قد يعزز فرص تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا.
عامل رئيسي آخر يتمثل في موقف الاتحاد الأوروبي. إذ تحافظ الدول الأعضاء في الاتحاد على روابط تجارية ودبلوماسية وثيقة مع الخليج، وتسعى إلى تعزيز التعاون في قضايا الهجرة والطاقة. وبناءً على ذلك، من المحتمل أن يُنظر إلى التقارب بين سوريا والخليج بشكل إيجابي من قبل العواصم الأوروبية.
كما أن التزام الإدارة الجديدة بإبداء اهتمام خاص بحقوق الإنسان وخطوات التحول الديمقراطي قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى تبني نهج أكثر مرونة في مراجعة قيوده المفروضة على سوريا عبر قنوات النقد البنّاء.
ومع ذلك، فإن ارتباط أحمد الشرع سابقًا بقيادة “هيئة تحرير الشام” (HTŞ) ووجودها في قوائم “المنظمات الإرهابية” قد يشكل عقبة أمام تحقيق تقدم سريع وسلس في هذا المسار. لكن بوساطة خليجية، يمكن أن تساهم رسائل موجهة إلى الغرب بشأن “التحول الأيديولوجي” و”التعاون البراغماتي” في تسهيل جهود الإدارة الجديدة لتعزيز شرعيتها الدولية.
الدور المحوري لدول الخليج في عملية إعادة بناء سوريا وتركيا
عانت سوريا من انهيار اقتصادي واجتماعي مؤلم نتيجة لحكم عائلة الأسد الذي استمر نحو ستين عامًا، بالإضافة إلى الدمار الناتج عن الحرب الدموية التي التي استمرت لمدة ثلاثة عشر عامًا، وهو ما يُبرز الحاجة المُلحة للبدء بأسرع ممكن في عملية إعادة بناء سوريا.
وفي ظل تدمير البنية التحتية، اضطر ملايين الأشخاص لمغادرة البلاد، وتوقفت العديد من القطاعات الصناعية والزراعية عن العمل تقريبًا. هذه الصورة القاتمة تظهر أن عملية إعداة إعمار سوريا بحاجة إلى برنامج إعادة بناء طويل الأمد وشامل. وهنا يظهر دور الفاعلين الرئيسيين الذين يمكنهم التدخل، وهم دول الخليج وتركيا.
فنظرًا للإيرادات الضخمة من النفط والغاز، يمكن لدول الخليج أن تقدم الدعم المالي لسوريا. أما تركيا، فيمكنها أن تنقل خبرتها في مجالات مثل البنية التحتية، والقوة العسكرية، وبناء الدولة إلى سوريا. في هذا السياق، يُتوقع أن يعزز التعاون بين الخليج وتركيا في سوريا بحيث يتم التعامل مع هذا التحول ليس كصراع صفري، بل في إطار من الربح للطرفين.
من المعروف أن الحكومة السورية الجديدة بحاجة ماسة إلى الدعم المالي والاستثماري من دول الخليج. وفي هذا الصدد، يُتوقع أن تقدم قطر تمويلًا لرواتب موظفي الحكومة السورية الجديدة.
كما تحتاج سوريا إلى مليارات الدولارات لإعادة بناء مشاريع البنية التحتية، وإعادة هيكلة نظم التعليم والصحة، وتنشيط الصناعة، وحل مشكلة الإسكان.
وفي هذا الاتجاه، يجري الحديث بين الحكومة الانتقالية في سوريا ودول الخليج حول “حزم إعادة بناء سوريا”، مع الاستعداد لإبرام اتفاقيات في مجالات الشراكات العامة والخاصة، واستثمارات الطاقة، والمشاريع الزراعية.
كما تشتهر قطر بخبرتها الطويلة في تقديم المساعدات الإنسانية والدعم اللوجستي، بينما تركز المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على استثمارات البنية التحتية والمشاريع الكبرى. ومن المتوقع أيضًا أن تلعب دول خليجية أخرى مثل الكويت والبحرين دورًا في دعم تكامل الجاليات السورية في الخارج والتعليم. وفي قلب هذه العملية، تقع تركيا، حيث يُعتبر التعاون معها ضرورة لوجستية وتجريبية.
وبالتالي، يُعتبر من غير المنطقي أو القابل للتنفيذ أن تُعيد دول الخليج بناء سوريا دون التعاون مع تركيا.
من جهة أخرى، أعادت عملية التطبيع الإقليمي بعد عام 2020 تشكيل العلاقات بين تركيا ودول الخليج بشكل كبير. ففي حين كانت هناك صراعات على المصالح والمنافسات الجيوسياسية بشأن قضايا مثل مصر، وليبيا، واليمن، والسودان، فإن المبادرات الدبلوماسية مع الإمارات والسعودية قد ساعدت على وضع هذه التوترات في إطار يمكن إدارته.
كما ساهمت استجابة بعض الفاعلين الخليجيين الذين كانوا يُتهمون بتقديم دعم غير مباشر للجماعات الإرهابية مثل “PKK/YPG” في تخفيف المخاوف الأمنية لأنقرة في سوريا.
في الوقت نفسه، بينما كانت تواصل تركيا الضغط على نظام الأسد دبلوماسيًا وعسكريًا لتعزيز دور القوى المعارضة على الأرض، فإن خطوات الخليج نحو التطبيع مع حكومة الأسد قد دفعت أنقرة إلى التصرف بحذر في مواجهة هذه التوترات المحتملة. ومع ذلك، يُتوقع أن يستمر محور تركيا-قطر في الحفاظ على نفوذه في سوريا بعد تشكيل الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع.
ويمكن أن تحاول تركيا توجيه التحركات المالية والاستثمارية القادمة من دول الخليج لدعم التنمية المستقلة لسوريا بعيدًا عن إيران وإسرائيل.
وبهذا، تسعى أنقرة إلى أن تصبح لاعبًا حاسمًا في عملية إعادة بناء سوريا من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وبالتالي تعميق تأثيرها الإقليمي. وبناءً على هذه الظروف، يُتوقع أن تتجاوز التعاونات بين تركيا والخليج التنافس لتتحول إلى شراكات دائمة. كما يمكن أن يلعب تنسيق الدعم اللوجستي والمالي بين الفصائل المدعومة من تركيا والعناصر التي تحصل على الدعم من الخليج دورًا محوريًا في الحفاظ على وحدة واستقرار سوريا.
ومع ذلك، من الواضح أن رد فعل إيران، والموقف الغربي، والتحولات السياسية والاجتماعية داخل سوريا ستؤثر بشكل مباشر على سير هذه العملية. في النهاية، ستحدد خطوات الحكومة الانتقالية، سواء في الإصلاحات الداخلية أو في التوجهات الخارجية أو إعادة بناء سوريا، المسار الذي ستسلكه سوريا في استقرارها وتطورها.
إعداد وتحرير وترجمة: عبد الجواد أمين حميد
التعليقات مغلقة.