أجرى أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، نيكولاس بلوم، دراسة حول إنتاجية العمل من المنزل، التي زادت بمقدار 5 أضعاف مقارنة بفترة ما قبل الجائحة، وأكد أن هذا التحول قد يعزز معدلات النمو العالمية، كما أشار إلى أنه في حال دعم هذا النمو بالذكاء الاصطناعي، فقد تنتهي فترة النمو البطيء.
ووفقاً لما نقله وترجمه فريق تحرير منصة كوزال نت عن موقع صحيفة “ekonomim” التركية، فقد ضمت منشورات صندوق النقد الدولي (IMF)، مقالات لِباحثين أكاديميين ودراسات هامة حول الموضوع .
وقد توقع نيكولاس بلوم، أستاذ جامعة ستانفورد، أن العمل من المنزل الذي انتشر بشكل واسع خلال الجائحة قد يعزز النمو العالي على المستوى العالمي.
في مقاله، أشار بلوم إلى أن نسبة العمل من المنزل، التي ارتفعت إلى حوالي 60% خلال الجائحة، استمرت اليوم بمعدل يزيد بمقدار 5 أضعاف عما كانت عليه قبل الجائحة، حيث درس تأثيراتها على الاقتصادات.
وفيما يلي تقييم بلوم لمقاله بعنوان “العمل من المنزل يزيد الإنتاجية”، والذي يتناول تأثيره على العاملين، أصحاب الأعمال، والاقتصادات:
“الزيادة بمقدار 5 أضعاف في نسبة العمل عن بعد ما بعد الجائحة يمكن أن تسهم في تسريع النمو الاقتصادي وتوفر فوائد أوسع.
عادةً ما يُعرف الاقتصاد بـ”العلم الكئيب”. ولسوء الحظ، فإن الدراسات الأخيرة التي تركز على التباطؤ في نمو الإنتاجية منذ خمسينيات القرن الماضي تعزز هذه النظرة.
ومع ذلك، أتبنى وجهة نظر أكثر تفاؤلاً، بفضل المكاسب الكبيرة في الإنتاجية التي حققتها زيادة العمل من المنزل الناتجة عن الجائحة.
وبعد تفشي الجائحة، زاد العمل من المنزل بنحو 10 أضعاف واستقر عند مستوى يفوق بما يقرب من 5 أضعاف عن ما كان عليه قبل الجائحة.
هذا التحول قد يساعد في مواجهة تباطؤ الإنتاجية ويؤدي إلى طفرة في النمو الاقتصادي خلال العقود المقبلة. وإذا تم دمج الذكاء الاصطناعي كعامل إضافي في تعزيز الإنتاج، فقد تنتهي فترة النمو البطيء.
التحليل الذي أقدمه مستند إلى مكونات النمو الاقتصادي كما شرحها الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، روبرت سولو. في مقاله الكلاسيكي لعام 1957، أكد سولو أن النمو يعتمد على زيادة عوامل الإنتاج مثل العمل ورأس المال، وأيضًا على النمو في الإنتاجية بحد ذاتها. بناءً على إطار عمله، سأقوم بتحليل كيفية دعم كل عامل من هذه العوامل للنمو الأسرع.”
آثار العمل عن بُعد على العمالة: زيادة الرواتب!
أبسط طريقة لفهم تأثير العمل عن بعد على العمالة هي ملاحظة أن العمل الهجين، الذي ظهر في الاستطلاعات في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا، يعادل زيادة في الرواتب بنسبة تقارب 8%. يُعتبر العمل الهجين نموذجًا شائعًا، حيث يشمل العمل من المنزل ليومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع، ويُطبق عادةً على موظفي المكاتب والمديرين وغيرهم من المهنيين.
السبب وراء اعتبار الموظفين أن هذا النظام يعادل زيادة بنسبة 8% في رواتبهم يعود إلى أن الموظف النموذجي يقضي حوالي 45 ساعة في المكتب، بالإضافة إلى ما يقرب من 8 ساعات أسبوعية يقضيها في التنقل. لذلك، فإن العمل من المنزل لثلاثة أيام في الأسبوع يوفر حوالي 5 ساعات أسبوعيًا، أي ما يعادل حوالي 10% من إجمالي وقت العمل والتنقل.
معظم الناس لا يستمتعون بالتنقل إلى العمل، ويُعطون أهمية كبيرة لهذا التوفير في الوقت. على سبيل المثال، أظهرت دراسة مشهورة للحاصل على جائزة نوبل دانييل كانيمان أن التنقل إلى العمل هو أكثر الأنشطة اليومية المكروهة، بل هو أكثر كراهية من العمل نفسه. لذلك، من السهل فهم سبب تقدير الموظفين للعمل من المنزل؛ إذ يوفر لهم ساعات من التنقل الشاق ويمنحهم مرونة العيش بعيدًا عن مكان العمل.
كما يخلق هذا التقدير للعمل من المنزل تأثيرًا قويًا على عرض القوى العاملة، إذ أن هناك ملايين الأشخاص في الاقتصاد العالمي مستعدون لدخول سوق العمل.
وتغييرات طفيفة في جاذبية العمل يمكن أن تجذب ملايين منهم إلى العمل، وتشمل هذه الفئات من هم على هوامش سوق العمل، مثل الأفراد الذين يتحملون مسؤولية رعاية الأطفال أو كبار السن، أو الذين يقتربون من التقاعد، أو الذين يعيشون في المناطق الريفية.
زيادة في مشاركة النساء والأشخاص ذوي الإعاقة في القوى العاملة
أحد الأمثلة على تأثير العمل من المنزل على عرض القوى العاملة هو أن هناك مليوني شخص إضافي من ذوي الإعاقة يعملون في الولايات المتحدة بعد الجائحة.
وقد حدثت هذه الزيادة بشكل رئيسي في الوظائف التي تتطلب نسبة عالية من العمل عن بعد. ويستفيد هؤلاء الموظفون من تجنب التنقلات الطويلة والتحكم في بيئة عملهم المنزلية.
مثال آخر هو أن نسبة توظيف النساء في سن العمل في الولايات المتحدة، وخصوصًا بعد الجائحة، زادت بمعدل أسرع بنسبة 2% مقارنة بالرجال.
وتشير الدراسات إلى أن دور المرأة الأكبر في رعاية الأطفال هو أحد الأسباب التي أدت إلى زيادة مشاركة النساء في سوق العمل بفضل العمل من المنزل.
وتجمع هذه التأثيرات يمكن أن يؤدي إلى زيادة عرض القوى العاملة بنسبة بضع نقاط مئوية.
العمل من المنزل يعزز الرغبة في الإنجاب
بالطبع، هذا الحساب يعتمد على عدد السكان الحالي. وعلى المدى الطويل، يمكن أن يزيد العمل من المنزل من معدلات الولادة.
إحدى القصص التي سمعها الباحث بشكل متكرر من خلال المحادثات مع مئات الموظفين والمديرين هي أن العمل عن بُعد يجعل من السهل أن يصبح المرء والدًا.
ويتابع “هذا الأمر أصبح واضحًا بشكل خاص في شرق آسيا، حيث أدت ساعات العمل الطويلة، ووقت التنقل المرهق، والضغوط الكبيرة التي يواجهها الآباء إلى انخفاض حاد في معدلات الخصوبة. إذا تمكن الآباء من العمل من المنزل يومين أو ثلاثة في الأسبوع، خاصة مع ساعات عمل مرنة تتيح لهم مشاركة المسؤوليات الأبوية، فمن المرجح أن تزيد معدلات الإنجاب. تُظهر التحليلات الأولية التي تعتمد على بيانات الاستطلاعات الأمريكية أن هناك رغبة بإنجاب ما بين 0.3 إلى 0.5 طفل إضافي لكل زوجين عندما يعمل كلا الوالدين من المنزل ليوم أو أكثر في الأسبوع”.
التوفير في رأس المال من خلال العمل من المنزل
أما التأثير الإيجابي للعمل من المنزل على رأس المال، فيكمن في إمكانية تخصيص المساحات المكتبية لاستخدامات أخرى مثل السكن أو التجارة على المدى الطويل. إذا كان الموظفون يعملون من المنزل ليومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع، فإن المجتمع سيحتاج إلى مساحات مكتبية أقل، مما يتيح استخدام هذه المساحات لأغراض أخرى. كما يؤدي ذلك إلى تقليل حركة المرور المرتبطة بالتنقل اليومي، مما يقلل من الحاجة إلى المزيد من البنية التحتية للنقل. علاوة على ذلك، فإن زيادة استخدام رأس المال المنزلي – مثل المساحات والمعدات في المنازل والشقق – يقلل من الاعتماد على استخدام رأس المال المتعلق بالمكاتب والنقل، مما يسمح بتوجيه هذه الموارد نحو استخدامات أخرى.
وتشغل المساحات المكتبية حوالي نصف مساحة الأراضي في مراكز المدن الرئيسية، ومع انخفاض إشغال المكاتب بنسبة 50% عما كان عليه قبل الجائحة، هناك إمكانية كبيرة لتقليص المساحات المكتبية.
توفير الوقت
وقد أظهرت البيانات الأخيرة أن سرعات حركة المرور خلال ساعات الذروة الصباحية أسرع بحوالي 2 إلى 3 أميال في الساعة، وهذا يقلل من الحاجة إلى بنية تحتية إضافية للنقل، مما يوفر للموظفين بضع دقائق يوميًا.
وعلى المدى الطويل، فإن السماح للموظفين بالعمل عن بُعد بشكل جزئي أو كامل يُمكّن من استغلال الأراضي غير المستغلة حاليًا لأغراض الإسكان، مما يزيد من توافر الأراضي الصالحة للبناء.
وفي العديد من المدن الكبرى، هناك ازدحام شديد لأن الموظفين يفضلون عدم العيش بعيدًا عن مراكز العمل، ولكن إذا كان الموظفون بحاجة إلى الذهاب إلى المكتب لبضعة أيام فقط في الأسبوع، فإن التنقل لمسافات أطول يصبح ممكنًا، مما يفتح المجال لإنشاء مناطق سكنية خارج مراكز المدن.
ويمكن أن تسهم هذه الفوائد المتعلقة برأس المال في زيادة الإنتاجية بنسبة ملحوظة خلال العقود المقبلة، بشكل جماعي.
“تأثير العمل عن بُعد الكامل يعتمد على كيفية إدارته”
وتشير الدراسات الميكروية الكلاسيكية على مستوى الشركات والأفراد إلى أن العمل الهجين، الذي يشمل حوالي 30٪ من القوى العاملة في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا، له تأثير محايد على الإنتاجية بشكل عام، إذ يوفر العمل من المنزل فوائد للموظفين من خلال تجنب التنقل المرهق وتوفير بيئة عمل هادئة نسبيًا.
ومع ذلك، فإن تقليل الوقت في المكتب قد يحد من قدرات الموظفين على التعلم والابتكار والتواصل، ولأن هذه التأثيرات الإيجابية والسلبية تلغي بعضها البعض، فإن التأثير الصافي للعمل الهجين على الإنتاجية عادة ما يكون صفرًا وفقًا للأبحاث.
أما تأثير العمل عن بُعد الكامل، فإنه يعتمد بشكل كبير على كيفية إدارته.
وقد أظهرت بعض الأبحاث التي أجريت في بداية الجائحة أن العمل عن بُعد الكامل في بيئة من الفوضى قد أدى إلى تأثيرات سلبية كبيرة، في حين أظهرت دراسات أخرى نتائج إيجابية في الوظائف التي تعتمد على التوجيه الذاتي مثل مراكز الاتصال وإدخال البيانات.
وبإيجاز، من المحتمل أن يكون تأثير العمل عن بُعد الكامل محايدًا، حيث تعتمد الشركات على هذا النوع من الترتيبات فقط عندما تتناسب مع طبيعة العمل.
ورغم أن التأثيرات على مستوى الشركات قد تكون محايدة، فإن زيادة مشاركة القوى العاملة يمكن أن تخلق تأثيرًا إيجابيًا على المستوى الكلي.
فوائد مشاركة القوى العاملة
ولِفهم فوائد مشاركة القوى العاملة، فلنتخيل أن الوظائف التي تتطلب الحضور الشخصي لا يمكن أن يشغلها إلا الموظفون المحليون. على سبيل المثال، وظيفة في الموارد البشرية أو تكنولوجيا المعلومات في نيويورك يمكن أن يشغلها فقط موظف محلي. لكن مع إمكانية العمل عن بُعد، يصبح بإمكان أصحاب العمل اختيار أفضل الموظفين على المستوى الإقليمي للعمل الهجين، أو حتى أفضل الموظفين على المستوى العالمي للعمل عن بُعد بالكامل.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن توسيع سوق العمل ليشمل مجموعة أوسع من المرشحين المحتملين يمكن أن يؤدي إلى فوائد كبيرة في الإنتاجية، إذ أن الانتقال من 10 مرشحين مناسبين لوظيفة معينة إلى 10 آلاف مرشح، خاصة مع استخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة في اختيار المرشحين، يمكن أن يؤدي إلى تطابق أكثر كفاءة.
ومن خلال العمل عن بُعد، يصبح بالإمكان تحقيق هذا التطابق على مستوى عالمي، مما يعزز من كفاءة العمل.
التأثير البيئي للعمل من المنزل
فائدة أخرى على المستوى الكلي للعمل من المنزل تتمثل في تقليل التلوث الناتج عن التنقل.
وقد أدت زيادة العمل عن بُعد إلى انخفاض حركة المرور بنحو 10٪ في الولايات المتحدة وأوروبا، مما أدى إلى تقليل انبعاثات الجسيمات الثقيلة.
وتشير الأبحاث الصحية إلى أن التلوث يؤدي إلى تراجع في القدرات المعرفية والإنتاجية. وبالتالي، فإن تقليل التلوث لا يحسن جودة الحياة فقط، بل يمكنه أن يدعم النمو الاقتصادي أيضًا.
دورة التغذية الراجعة الإيجابية
يساهم العمل من المنزل في تعزيز النمو السريع ويخلق دورة تغذية راجعة إيجابية تعزز هذه التأثيرات.
وقد أظهرت الأدبيات الاقتصادية أن الشركات تميل إلى الابتكار لخدمة أسواق أكبر وأكثر ربحية.
وإذا ارتفع عدد العاملين من المنزل من 5 ملايين إلى 50 مليونًا، فإن هذا سيجذب اهتمام الشركات الكبرى، والشركات الناشئة، والمستثمرين لتطوير تقنيات جديدة تخدم هذا السوق، مما يعزز الإنتاجية والنمو.
هذه الدورة التغذوية الراجعة قد بدأت بالفعل. فوفقًا لمكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي، فإن عدد طلبات براءات الاختراع التي تتعلق بمصطلحات مثل “العمل عن بُعد” أو “العمل من المنزل” كان مستقرًا حتى عام 2020، ولكنه بدأ الآن في الازدياد.
وهذا يؤكد على التحسن في التقنيات، كما ستؤدي الكاميرات والشاشات والبرمجيات والتقنيات الأفضل مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي والصور المجسمة إلى تحسين كفاءة العمل المختلط والعمل عن بُعد في المستقبل.
وسيؤدي ذلك إلى خلق حلقة ردود فعل إيجابية بين النمو والعمل عن بُعد.
قد تنخفض تكلفة المعيشة في المدن
هل يؤدي انتشار العمل من المنزل إلى الإضرار بالمناطق الحضرية؟ نعم، انخفضت نفقات التجزئة في مراكز المدن، ولكن هذه النفقات تحولت إلى الضواحي، وعادت النفقات الاستهلاكية العامة إلى الاتجاه الذي كانت عليه قبل الجائحة.
وقد تكون المشكلة الأكبر هي الانخفاض الكبير في قيمة المساحات المكتبية التجارية.
وعلى الرغم من أن هذا يمثل خسارة للمستثمرين في قطاع المكاتب، فإن تحويل تلك المساحات في مراكز المدن إلى استخدامات سكنية يمكن أن يجعل العيش داخل المدن أكثر ملاءمة على المدى الطويل.
وقد ارتفعت تكلفة المعيشة في المدن بشكل كبير خلال التسعينيات والألفينيات، مما أدى إلى إبعاد العديد من الموظفين ذوي الدخل المتوسط والمنخفض عن مراكز المدن، إذ أن تقليص مساحات الاستخدام المكتبي في هذه المناطق وتحويلها إلى سكن قد يوفر مساكن أكثر تكلفة لموظفي الخدمات الأساسية.
“الفائزون في العمل من المنزل أكثر بكثير من الخاسرين”
وقد شهد عام 2020 زيادة في العمل من المنزل، مما ساعد على تعويض تباطؤ الإنتاجية الذي سبق الجائحة، ودعم النمو الحالي والمستقبلي. أن تكون اقتصاديًا يعني عادةً موازنة الفائزين والخاسرين.
ويؤدي تحليل التغيرات في التكنولوجيا والتجارة والأسعار والتنظيمات غالبًا إلى نتائج مختلطة، حيث تُخلق مجموعات كبيرة من الفائزين والخاسرين. ولكن فيما يتعلق بالعمل من المنزل، فإن الفائزين يتفوقون بشكل كبير على الخاسرين. لقد حصلت الشركات والموظفون والمجتمع بشكل عام على فوائد كبيرة. لم أرَ في حياتي كاقتصادي تحولًا يحقق فوائد بهذا الحجم الكبير.
وهذا يقودني إلى حالة غير معتادة أجد فيها نفسي “عالِمًا متشائمًا سعيدًا”. لكنني أستطيع أن أقول إنني سعيد بكتابة هذا وأنا أعمل من المنزل.”
إعداد وتحرير: عبد الجواد أمين حميد